الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الداء والدواء المسمى بـ «الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي» ***
وَلَمَّا كَانَتْ مَفْسَدَةُ اللِّوَاطِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ؛ كَانَتْ عُقُوبَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَعْظَمِ الْعُقُوبَاتِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلْ هُوَ أَغْلَظُ عُقُوبَةً مِنَ الزِّنَى، أَوِ الزِّنَى أَغْلَظُ عُقُوبَةً مِنْهُ، أَوْ عُقُوبَتُهُمَا سَوَاءٌ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَخَالِدُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْمَرٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمَالِكٌ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ -فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ- وَالشَّافِعِيُّ -فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ- إِلَى أَنَّ عُقُوبَتَهُ أَغْلَظُ مِنْ عُقُوبَةِ الزِّنَى، وَعُقُوبَتُهُ الْقَتْلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ. وَذَهَبَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ -فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ-، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ -فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْهُ-، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: إِلَى أَنَّ عُقُوبَتَهُ وَعُقُوبَةَ الزَّانِي سَوَاءٌ. وَذَهَبَ الْحَاكِمُ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ عُقُوبَتَهُ دُونَ عُقُوبَةِ الزَّانِي، وَهِيَ التَّعْزِيرُ. قَالُوا: لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ مِنَ الْمَعَاصِي لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهِ حَدًّا مُقَدَّرًا، فَكَانَ فِيهِ التَّعْزِيرُ، كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي مَحَلٍّ لَا تَشْتَهِيهِ الطِّبَاعُ، بَلْ رَكَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّفْرَةِ مِنْهُ حَتَّى الْحَيَوَانُ الْبَهِيمُ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ حَدٌّ كَوَطْءِ الْأَتَانِ وَغَيْرِهَا. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى زَانِيًا لُغَةً وَلَا شَرْعًا وَلَا عُرْفًا، فَلَا يَدْخُلُ فِي النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى حَدِّ الزَّانِينَ. قَالُوا: وَقَدْ رَأَيْنَا قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ، أَنَّ الْمَعْصِيَةَ إِذَا كَانَ الْوَازِعُ عَنْهَا طَبِيعِيًّا اكْتُفِيَ بِذَلِكَ الْوَازِعِ مِنَ الْحَدِّ، وَإِذَا كَانَ فِي الطِّبَاعِ تَقَاضِيهَا، جُعِلَ فِي الْحَدِّ بِحَسَبِ اقْتِضَاءِ الطِّبَاعِ لَهَا، وَلِهَذَا جُعِلَ الْحَدُّ فِي الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْمُسْكِرِ دُونَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ. قَالُوا: وَطَرْدُ هَذَا، أَنَّهُ لَا حَدَّ فِي وَطْءِ الْبَهِيمَةِ وَلَا الْمَيِّتَةِ، وَقَدْ جَبَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الطِّبَاعَ عَلَى النَّفْرَةِ مِنْ وَطْءِ الرَّجُلِ رَجُلًا مِثْلَهُ أَشَدَّ نَفْرَةٍ، كَمَا جَبَلَهَا عَلَى النَّفْرَةِ مِنَ اسْتِدْعَاءِ الرَّجُلِ مَنْ يَطَؤُهُ بِخِلَافِ الزِّنَى، فَإِنَّ الدَّاعِيَ فِيهِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ إِذَا اسْتَمْتَعَ بِشَكْلِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ، كَمَا تَسَاحَقَتِ الْمَرْأَتَانِ وَاسْتَمْتَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالْأُخْرَى. قَالَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: وَهُوَ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ، وَحَكَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ إِجْمَاعًا لِلصَّحَابَةِ، لَيْسَ فِي الْمَعَاصِي أَعْظَمُ مَفْسَدَةً مِنْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ، وَهِيَ تَلِي مَفْسَدَةَ الْكُفْرِ، وَرُبَّمَا كَانَتْ أَعْظَمَ مِنْ مَفْسَدَةِ الْقَتْلِ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالُوا: وَلَمْ يَبْتَلِ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْكَبِيرَةِ قَبْلَ قَوْمِ لُوطٍ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَعَاقَبَهُمْ عُقُوبَةً لَمْ يُعَاقِبْ بِهَا أَحَدًا غَيْرَهُمْ، وَجَمَعَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ بَيْنَ الْإِهْلَاكِ، وَقَلْبِ دِيَارِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَالْخَسْفِ بِهِمْ، وَرَجْمِهِمْ بِالْحِجَارَةِ مِنَ السَّمَاءِ، فَنَكَّلَ بِهِمْ نَكَالًا لَمْ يُنَكِّلْهُ أُمَّةً سِوَاهُمْ، وَذَلِكَ لِعِظَمِ مَفْسَدَةِ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ الَّتِي تَكَادُ الْأَرْضُ تَمِيدُ مِنْ جَوَانِبِهَا إِذَا عُمِلَتْ عَلَيْهَا، وَتَهْرُبُ الْمَلَائِكَةُ إِلَى أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِذَا شَاهَدُوهَا، خَشْيَةَ نُزُولِ الْعَذَابِ عَلَى أَهْلِهَا، فَيُصِيبُهُمْ مَعَهُمْ، وَتَعِجُّ الْأَرْضُ إِلَى رَبِّهَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَتَكَادُ الْجِبَالُ تَزُولُ عَنْ أَمَاكِنِهَا، وَقَتْلُ الْمَفْعُولِ بِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ وَطْئِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا وَطِئَهُ قَتَلَهُ قَتْلًا لَا تُرْجَى الْحَيَاةُ مَعَهُ بِخِلَافِ قَتْلِهِ فَإِنَّهُ مَظْلُومٌ شَهِيدٌ، وَرُبَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي آخِرَتِهِ. قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَدَّ الْقَاتِلِ إِلَى خِيَرَةِ الْوَلِيِّ، إِنْ شَاءَ قَتَلَ وَإِنْ شَاءَ عَفَا، وَحَتَّمَ قَتْلَ اللُّوطِيِّ حَدًّا، كَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الصَّرِيحَةُ الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا، بَلْ عَلَيْهَا عَمَلُ أَصْحَابِهِ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: أَنَّهُ وَجَدَ فِي بَعْضِ ضَوَاحِي الْعَرَبِ رَجُلًا يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، فَكَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَاسْتَشَارَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- فَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَشَدَّهُمْ قَوْلًا فِيهِ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ هَذَا إِلَّا أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِهَا، أَرَى أَنْ يُحَرَّقَ بِالنَّارِ، فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى خَالِدٍ فَحَرَّقَهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: يُنْظَرُ أَعْلَى بِنَاءٍ فِي الْقَرْيَةِ، فَيُرْمَى اللُّوطِيُّ مِنْهَا مُنْكَبًّا، ثُمَّ يُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ. وَأَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ هَذَا الْحَدَّ مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ قَوْمَ لُوطٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ الَّذِي رَوَى عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ». رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ، وَاحْتَجَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ. قَالُوا: وَثَبَتَ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ» وَلَمْ يَجِئْ عَنْهُ لَعْنَةُ الزَّانِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ لَعَنَ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ، فَلَمْ يَتَجَاوَزْ بِهِمْ فِي اللَّعْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَكَرَّرَلَعْنَ اللُّوطِيَّةِ،وَأَكَّدَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَطْبَقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى قَتْلِهِ، لَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ فِيهِ رَجُلَانِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي صِفَةِ قَتْلِهِ، فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ اخْتِلَافًا مِنْهُمْ فِي قَتْلِهِ، فَحَكَاهَا مَسْأَلَةَ نِزَاعٍ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَهِيَ بَيْنَهُمْ مَسْأَلَةُ إِجْمَاعٍ لَا مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ. قَالُوا: وَمَنْ تَأَمَّلَ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: 32]. وَقَوْلَهُ فِي اللِّوَاطِ: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 80]. تَبَيَّنَ لَهُ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَهُمَا، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ نَكَّرَ الْفَاحِشَةَ فِي الزِّنَى، أَيْ هُوَ فَاحِشَةٌ مِنَ الْفَوَاحِشِ، وَعَرَّفَهَا فِي اللِّوَاطِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّهُ جَامِعٌ لِمَعَانِي اسْمِ الْفَاحِشَةِ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ الرَّجُلُ، وَنِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ، أَيْ أَتَأْتُونَ الْخَصْلَةَ الَّتِي اسْتَقَرَّ فُحْشُهَا عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ، فَهِيَ لِظُهُورِ فُحْشِهَا وَكَمَالِهِ غَنِيَّةٌ عَنْ ذِكْرِهَا، بِحَيْثُ لَا يَنْصَرِفُ الِاسْمُ إِلَى غَيْرِهَا، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} [سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 19]. أَيِ الْفَعْلَةَ الشَّنْعَاءَ الظَّاهِرَةَ الْمَعْلُومَةَ لِكُلِّ أَحَدٍ. ثُمَّ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ شَأْنَ فُحْشِهَا بِأَنَّهَا لَمْ يَعْمَلْهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ قَبْلَهُمْ، فَقَالَ: مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ زَادَ فِي التَّأْكِيدِ بِأَنْ صَرَّحَ بِمَا تَشْمَئِزُّ مِنْهُ الْقُلُوبُ، وَتَنْبُو عَنْهُ الْأَسْمَاعُ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ الطِّبَاعُ أَشَدَّ نَفْرَةٍ، وَهُوَ إِتْيَانُ الرَّجُلِ رَجُلًا مِثْلَهُ يَنْكِحُهُ كَمَا يَنْكِحُ الْأُنْثَى، فَقَالَ: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 81]. ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى اسْتِغْنَائِهِمْ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَيْهِ لَيْسَ إِلَّا مُجَرَّدَ الشَّهْوَةِ لَا الْحَاجَةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا مَالَ الذَّكَرُ إِلَى الْأُنْثَى، وَمِنْ قَضَاءِ الْوَطَرِ وَلَذَّةِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَحُصُولِ الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ الَّتِي تَنْسَى الْمَرْأَةُ لَهَا أَبَوَيْهَا، وَتَذْكُرُ بَعْلَهَا، وَحُصُولِ النَّسْلِ الَّذِي هُوَ حِفْظُ هَذَا النَّوْعِ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَتَحْصِينِ الْمَرْأَةِ وَقَضَاءِ وَطَرِهَا، وَحُصُولِ عَلَاقَةِ الْمُصَاهَرَةِ الَّتِي هِيَ أُخْتُ النَّسَبِ، وَقِيَامِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَخُرُوجِ أَحَبِّ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ مِنْ جِمَاعِهِنَّ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَمُكَاثَرَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْأَنْبِيَاءَ بِأُمَّتِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِ النِّكَاحِ، وَالْمَفْسَدَةُ الَّتِي فِي اللِّوَاطِ تُقَاوِمُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَتُرْبِي عَلَيْهِ بِمَا لَا يُمْكِنُ حَصْرُ فَسَادِهِ، وَلَا يَعْلَمُ تَفْصِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ. ثُمَّ أَكَّدَ قُبْحَ ذَلِكَ بِأَنَّ اللُّوطِيَّةَ عَكَسُوا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا الرِّجَالَ، وَقَلَبُوا الطَّبِيعَةَ الَّتِي رَكَّبَهَا اللَّهُ فِي الذُّكُورِ، وَهِيَ شَهْوَةُ النِّسَاءِ دُونَ الذُّكُورِ، فَقَلَبُوا الْأَمْرَ، وَعَكَسُوا الْفِطْرَةَ وَالطَّبِيعَةَ فَأَتَوُا الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ، وَلِهَذَا قَلَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ دِيَارَهُمْ، فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، وَكَذَلِكَ قُلِبُوا هُمْ، وَنُكِّسُوا فِي الْعَذَابِ عَلَى رُؤُوسِهِمْ. ثُمَّ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ قُبْحَ ذَلِكَ بِأَنْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْإِسْرَافِ وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، فَقَالَ: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 81]. فَتَأَمَّلْ هَلْ جَاءَ مِثْلُ ذَلِكَ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ فِي الزِّنَى؟ وَأَكَّدَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} [سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ: 74]. ثُمَّ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمُ الذَّمَّ بِوَصْفَيْنِ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ فَقَال: {َإِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} [سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ: 74]. وَسَمَّاهُمْ مُفْسِدِينَ فِي قَوْلِ نَبِيِّهِمْ: {رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} [سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ: 30]. وَسَمَّاهُمْ ظَالِمِينَ فِي قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ لِإِبْرَاهِيمَ: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} [سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ: 31]. فَتَأَمَّلْ مَنْ عُوقِبَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ، وَمَنْ ذَمَّهُ اللَّهُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَذَمَّاتِ، وَلَمَّا جَادَلَ فِيهِمْ خَلِيلُهُ إِبْرَاهِيمُ الْمَلَائِكَةَ، وَقَدْ أَخْبَرُوهُ بِإِهْلَاكِهِمْ قِيلَ لَهُ: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [سُورَةُ هُودٍ: 76]. وَتَأَمَّلْ خُبْثَ اللُّوطِيَّةِ وَفَرْطَ تَمَرُّدِهِمْ عَلَى اللَّهِ حَيْثُ جَاءُوا نَبِيَّهُمْ لُوطًا لَمَّا سَمِعُوا بِأَنَّهُ قَدْ طَرَقَهُ أَضْيَافٌ هُمْ مِنْ أَحْسَنِ الْبَشَرِ صُوَرًا، فَأَقْبَلَ اللُّوطِيَّةُ إِلَيْهِمْ يُهَرْوِلُونَ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَالَ لَهُمْ: {يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [سُورَةُ هُودٍ: 78]. فَفَدَى أَضْيَافَهُ بِبَنَاتِهِ يُزَوِّجُهُمْ بِهِمْ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ وَأَضْيَافِهِ مِنَ الْعَارِ الشَّدِيدِ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ، فَرَدُّوا عَلَيْهِ، وَلَكِنْ رَدَّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [سُورَةُ هُودٍ: 79]. فَنَفَثَ نَبِيُّ اللَّهِ مِنْهُ نَفْثَةَ مَصْدُورٍ خَرَجَتْ مِنْ قَلْبٍ مَكْرُوبٍ، فَقَالَ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ فَنَفَّسَ لَهُ رُسُلُ اللَّهِ عَنْ حَقِيقَةِ الْحَالِ، وَأَعْلَمُوهُ أَنَّهُمْ مِمَّنْ لَيْسُوا يُوصَلُ إِلَيْهِمْ، وَلَا إِلَيْهِ بِسَبَبِهِمْ، فَلَا تَخَفْ مِنْهُمْ، وَلَا تَعْبَأْ بِهِمْ، وَهَوِّنْ عَلَيْكَ، فَقَالُوا: {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ وَبَشَّرُوهُ بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْوَعْدِ لَهُ وَلِقَوْمِهِ مِنَ الْوَعِيدِ الْمُصِيبِ فَقَالُوا: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [سُورَةُ هُودٍ: 81]. فَاسْتَبْطَأَ نَبِيُّ اللَّهِ مَوْعِدَ هَلَاكِهِمْ، وَقَالَ: أُرِيدُ أَعْجَلَ مِنْ هَذَا، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَوَاللَّهِ مَا كَانَ بَيْنَ إِهْلَاكِ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَنَجَاةِ نَبِيِّهِ وَأَوْلِيَائِهِ إِلَّا مَا بَيْنَ السَّحَرِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَإِذَا بِدِيَارِهِمْ قَدِ اقْتُلِعَتْ مِنْ أَصْلِهَا، وَرُفِعَتْ نَحْوَ السَّمَاءِ حَتَّى سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ نُبَاحَ الْكِلَابِ وَنَهِيقَ الْحَمِيرِ، فَبَرَزَ الْمَرْسُومُ الَّذِي لَا يُرَدُّ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ الْجَلِيلِ، إِلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ جِبْرَائِيلَ، بِأَنْ قَلَبَهَا عَلَيْهِمْ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [سُورَةُ هُودٍ: 82] فَجَعَلَهُمْ آيَةً لِلْعَالَمِينَ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، وَنَكَالًا وَسَلَفًا لِمَنْ شَارَكَهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ مِنَ الْمُجْرِمِينَ، وَجَعَلَ دِيَارَهُمْ بِطَرِيقِ السَّالِكِينَ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [سُورَةُ الْحِجْرِ: 75-77]. أَخَذَهُمْ عَلَى غِرَّةٍ وَهُمْ نَائِمُونَ، وَجَاءَهُمْ بَأْسُهُ وَهُمْ فِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ، فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَقُلِبَتْ تِلْكَ اللَّذَّةُ آلَامًا، فَأَصْبَحُوا بِهَا يُعَذَّبُونَ. مَآرِبُ كَانَتْ فِي الْحَيَاةِ لِأَهْلِهَا *** عَذَابًا فَصَارَتْ فِي الْمَمَاتِ عَذَابًا ذَهَبَتِ اللَّذَّاتُ وَأَعْقَبَتِ الْحَسَرَاتِ، وَانْقَضَتِ الشَّهَوَاتُ، وَأَوْرَثَتِ الشِّقْوَاتِ، وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا، وَعُذِّبُوا طَوِيلًا، رَتَعُوا مَرْتَعًا وَخِيمًا فَأَعْقَبَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، أَسْكَرَتْهُمْ خَمْرَةُ تِلْكَ الشَّهَوَاتِ، فَمَا اسْتَفَاقُوا مِنْهَا إِلَّا فِي دِيَارِ الْمُعَذَّبِينَ، وَأَرْقَدَتْهُمْ تِلْكَ الْغَفْلَةُ، فَمَا اسْتَيْقَظُوا مِنْهَا إِلَّا وَهُمْ فِي مَنَازِلِ الْهَالِكِينَ، فَنَدِمُوا وَاللَّهِ أَشَدَّ النَّدَامَةِ حِينَ لَا يَنْفَعُ النَّدَمُ، وَبَكَوْا عَلَى مَا أَسْلَفُوهُ بَدَلَ الدُّمُوعِ بِالدَّمِ، فَلَوْ رَأَيْتَ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ، وَالنَّارُ تَخْرُجُ مِنْ مَنَافِذِ وُجُوهِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ وَهُمْ بَيْنَ أَطْبَاقِ الْجَحِيمِ، وَهُمْ يَشْرَبُونَ بَدَلَ لَذِيذِ الشَّرَابِ كُئُوسَ الْحَمِيمِ، وَيُقَالُ لَهُمْ وَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ يُسْحَبُونَ: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [سُورَةُ الطُّورِ: 16]. وَقَدْ قَرَّبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَسَافَةَ الْعَذَابِ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَبَيْنَ إِخْوَانِهِمْ فِي الْعَمَلِ، فَقَالَ مُخَوِّفًا لَهُمْ أَنْ يَقَعَ الْوَعِيدُ: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [سُورَةُ هُودٍ: 83]. فَيَا نَاكِحِي الذُّكْرَانِ يَهْنِيكُمُ الْبُشْرَى *** فَيَوْمَ مَعَادِ النَّاسِ إِنَّ لَكُمْ أَجْرًا كُلُوا وَاشْرَبُوا وَازْنُوا وَلُوطُوا وَأَبْشِرُوا *** فَإِنَّ لَكُمْ زَفَرًا إِلَى الْجَنَّةِ الْحَمْرَا فَإِخْوَانُكُمْ قَدْ مَهَّدُوا الدَّارَ قَبْلَكُمُ *** وَقَالُوا إِلَيْنَا عَجِّلُوا لَكُمُ الْبُشْرَى وَهَا نَحْنُ أَسْلَافٌ لَكُمْ فِي انْتِظَارِكُمُ *** سَيَجْمَعُنَا الْجَبَّارُ فِي نَارِهِ الْكُبْرَى وَلَا تَحْسَبُوا أَنَّ الَّذِينَ نَكَحْتُمُو *** يَغِيبُونَ عَنْكُمْ بَلْ تَرَوْنَهُمْ جَهْرًا وَيَلْعَنُ كُلًّا مِنْكُمَا بِخَلِيلِهِ *** وَيَشْقَى بِهِ الْمَحْزُونُ فِي الْكَرَّةِ الْأُخْرَى يُعَذِّبُ كُلًّا مِنْهُمَا بِشَرِيكِهِ *** كَمَا اشْتَرَكَا فِي لَذَّةٍ تُوجِبُ الْوِزْرَا فِيالْأَجْوِبَةِ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ مَنْ جَعَلَ عُقُوبَةَ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ دُونَ عُقُوبَةِ الزِّنَى. أَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهَا مَعْصِيَةٌ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ فِيهِ حَدًّا مُعَيَّنًا، فَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُبَلِّغَ عَنِ اللَّهِ جَعَلَ حَدَّ صَاحِبِهَا الْقَتْلَ حَتْمًا، وَمَا شَرَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّمَا شَرَعَهُ عَنِ اللَّهِ، فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّ حَدَّهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ بِالشَّرْعِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ بِنَصِّ الْكِتَابِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ انْتِفَاءُ حُكْمِهِ لِثُبُوتِهِ بِالسُّنَّةِ. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا يَنْتَقِضُ عَلَيْكُمْ بِالرَّجْمِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ. فَإِنْ قُلْتُمْ: بَلْ ثَبَتَ بِقُرْآنٍ نُسِخَ لَفْظُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ. قُلْنَا: فَيُنْقَضُ عَلَيْكُمْ بِحَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ. الثَّالِثُ: أَنَّ نَفْيَ دَلِيلٍ مُعَيَّنٍ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ مُطْلَقِ الدَّلِيلِ وَلَا نَفْيَ الْمَدْلُولِ، فَكَيْفَ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي نَفَيْتُمُوهُ غَيْرُ مُنْتَفٍ؟ وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ وَطْءٌ لَا تَشْتَهِيهِ الطِّبَاعُ، بَلْ رَكَّبَ اللَّهُ الطِّبَاعَ عَلَى النَّفْرَةِ مِنْهُ، فَهُوَ كَوَطْءِ الْمَيْتَةِ وَالْبَهِيمَةِ، فَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قِيَاسٌ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، مَرْدُودٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. الثَّانِي: أَنَّ قِيَاسَ وَطْءِ الْأَمْرَدِ الْجَمِيلِ الَّذِي فِتْنَتُهُ تَرْبُو عَلَى كُلِّ فِتْنَةٍ، عَلَى وَطْءِ أَتَانٍ أَوِ امْرَأَةٍ مَيِّتَةٍ مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ، وَهَلْ يَعْدِلُ ذَلِكَ أَحَدٌ قَطُّ بِأَتَانٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ مَيِّتَةٍ، أَوْ سَبَى ذَلِكَ عَقْلَ عَاشِقٍ، أَوْ أَسَرَ قَلْبَهُ، أَوِ اسْتَوْلَى عَلَى فِكْرِهِ وَنَفْسِهِ؟ فَلَيْسَ فِي الْقِيَاسِ أَفْسَدُ مِنْ هَذَا. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا مُنْتَقِضٌ بِوَطْءِ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ وَالْأُخْتِ، فَإِنَّ النَّفْرَةَ الطَّبِيعِيَّةَ عَنْهُ حَاصِلَةٌ مَعَ أَنَّ الْحَدَّ فِيهِ مِنْ أَغْلَظِ الْحُدُودِ -فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ- وَهُوَ الْقَتْلُ بِكُلِّ حَالٍ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ، وَهَذِهِ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: لَقِيتُ عَمِّي وَمَعَهُ الرَّايَةُ، فَقُلْتُ: إِلَى أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةَ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ وَآخُذَ مَالَهُ». قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، قَالَ الْجَوْزَجَانِيُّ: عَمُّ الْبَرَاءِ اسْمُهُ الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو. فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَنْ وَقَعَ عَلَى ذَاتِ مَحْرَمٍ فَاقْتُلُوهُ». وَرُفِعَ إِلَى الْحَجَّاجِ رَجُلٌ اغْتَصَبَ أُخْتَهُ عَلَى نَفْسِهَا، فَقَالَ: احْبِسُوهُ وَسَلُوا مَنْ هَاهُنَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَسَأَلُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطَرِّفٍ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: مَنْ تَخَطَّى حُرَمَ الْمُؤْمِنِينَ، فَخُطُّوا وَسَطَهُ بِالسَّيْفِ». وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْقَتْلِ بِالتَّوْسِيطِ، وَهَذَا دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَأَنَّ مَنْ لَا يُبَاحُ وَطْؤُهُ بِحَالٍ فَحَدُّ وَطْئِهِ الْقَتْلُ، دَلِيلُهُ: مَنْ وَقَعَ عَلَى أُمِّهِ أَوِ ابْنَتِهِ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي وَطْءِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَوَطْءِ مَنْ لَا يُبَاحُ وَطْؤُهُ بِحَالٍ، فَكَانَ حَدُّهُ الْقَتْلَ كَاللُّوطِيِّ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى الْمَسْأَلَتَيْنِ بِالنَّصِّ، وَالْقِيَاسُ يَشْهَدُ لِصِحَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّمَنْ زَنَى بِذَاتِ مَحْرَمِهِفَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ الْحَدِّ، هَلْ هُوَ الْقَتْلُ بِكُلِّ حَالٍ، أَوْ حَدُّهُ حَدُّ الزَّانِي، عَلَى قَوْلَيْنِ: فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ -فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ-: أَنَّ حَدَّهُ حَدُّ الزَّانِي. وَذَهَبَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ إِلَى: أَنَّ حَدَّهُ الْقَتْلُ بِكُلِّ حَالٍ. وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَصَابَهَا بِاسْمِ النِّكَاحِ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ أَنَّهُ يُحَدُّ، إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ رَأَى ذَلِكَ شُبْهَةً مُسْقِطَةً لِلْحَدِّ. وَمُنَازِعُوهُ يَقُولُونَ: إِذَا أَصَابَهَا بِاسْمِ النِّكَاحِ فَقَدْ زَادَ الْجَرِيمَةَ غِلَظًا وَشِدَّةً، فَإِنَّهُ ارْتَكَبَ مَحْذُورَيْنِ عَظِيمَيْنِ: مَحْذُورَ الْعَقْدِ، وَمَحْذُورَ الْوَطْءِ، فَكَيْفَ تُخَفَّفُ عَنْهُ الْعُقُوبَةُ بِضَمِّ مَحْذُورِ الزِّنَى؟ وَأَمَّاوَطْءُ الْمَيِّتَةِفَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ، وَهُمَا فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، فَإِنَّ فِعْلَهُ أَعْظَمُ جُرْمًا وَأَكْبَرُ ذَنْبًا انْضَمَّ إِلَى فَاحِشَتِهِ هَتْكُ حُرْمَةِ الْمَيِّتَةِ.
وَأَمَّا وَاطِئُ الْبَهِيمَةِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُؤَدَّبُ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الزَّانِي، يُجْلَدُ إِنْ كَانَ بِكْرًا، وَيُرْجَمُ إِنْ كَانَ مُحْصَنًا، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ اللُّوطِيِّ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَيُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي حَدِّهِ، هَلْ هُوَ الْقَتْلُ حَتْمًا أَوْ هُوَ كَالزَّانِي؟ وَالَّذِينَ قَالُوا: "حَدُّهُ الْقَتْلُ" احْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ، وَاقْتُلُوهَا مَعَهُ». قَالُوا: وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ لَا يُبَاحُ بِحَالٍ؛ فَكَانَ فِيهِ الْقَتْلُ كَحَدِّ اللُّوطِيِّ. وَمَنْ لَمْ يَرَ حَدًّا قَالُوا: لَمْ يَصِحَّ فِيهِ الْحَدِيثُ، وَلَوْ صَحَّ لَقُلْنَا بِهِ، وَلَمْ يَحِلَّ لَنَا مُخَالَفَتُهُ. قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ الشَّالَنْجِيُّ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنِ الَّذِي يَأْتِي الْبَهِيمَةَ، فَوَقَفَ عِنْدَهَا، وَلَمْ يَثْبُتْ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ، وَأَيْضًا فَرَاوِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَدْ أَفْتَى بِأَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَهَذَا يُضَعِّفُ الْحَدِيثَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الزَّاجِرَ الطَّبْعِيَّ عَنْ إِتْيَانِ الْبَهِيمَةِ أَقْوَى مِنَ الزَّاجِرِ الطَّبْعِيِّ عَنِ التَّلَوُّطِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ أَنَّهُمَا فِي طِبَاعِ النَّاسِ سَوَاءٌ، فَإِلْحَاقُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا قِيَاسُكُمْ وَطْءَ الرِّجَالِ لِمِثْلِهِ عَلَى تَدَالُكِ الْمَرْأَتَيْنِ، فَمِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ، إِذْ لَا إِيلَاجَ هُنَاكَ، وَإِنَّمَا نَظِيرُهُ مُبَاشَرَةُ الرَّجُلِ الرَّجُلَ مِنْ غَيْرِ إِيلَاجٍ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ الْمَرْفُوعَةِ: إِذَا أَتَتِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَهُمَا زَانِيَتَانِ» وَلَكِنْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِذَلِكَ، لِعَدَمِ الْإِيلَاجِ، وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِمَا اسْمُ الزِّنَى الْعَامُّ، كَزِنَى الْعَيْنِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالْفَمِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا: فَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ التَّلَوُّطِ مَعَ الْمَمْلُوكِ كَحُكْمِهِ مَعَ غَيْرِهِ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ تَلَوُّطَ الْإِنْسَانِ بِمَمْلُوكِهِ جَائِزٌ، وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [سُورَةُ الْمَعَارِجِ: 30]. وَقَاسَ ذَلِكَ عَلَى أَمَتِهِ الْمَمْلُوكَةِ فَهُوَ كَافِرٌ، يُسْتَتَابُ كَمَا يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَتَلَوُّطُ الْإِنْسَانِ بِمَمْلُوكِهِ كَتَلَوُّطِهِ بِمَمْلُوكِ غَيْرِهِ فِي الْإِثْمِ وَالْحُكْمِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ مَعَ هَذَا كُلِّهِ دَوَاءٌ لِهَذَا الدَّاءِ الْعُضَالِ؟وَرُقْيَةٌ لِهَذَا السِّحْرِ الْقَتَّالِ؟ وَمَا الِاحْتِيَالُ لِدَفْعِ هَذَا الْخَبَالِ؟ وَهَلْ مِنْ طَرِيقٍ قَاصِدٍ إِلَى التَّوْفِيقِ؟ وَهَلْ يُمْكِنُ السَّكْرَانَ بِخَمْرِ الْهَوَى أَنْ يُفِيقَ؟ وَهَلْ يَمْلِكُ الْعَاشِقُ قَلْبَهُ وَالْعِشْقُ قَدْ وَصَلَ إِلَى سُوَيْدَائِهِ؟ وَهَلْ لِلطَّبِيبِ بَعْدَ ذَلِكَ حِيلَةٌ فِي بُرْئِهِ مِنْ سُوَيْدَائِهِ؟ وَإِنْ لَامَهُ لَائِمٌ الْتَذَّ بِمَلَامِهِ ذِكْرًا لِمَحْبُوبِهِ، وَإِنْ عَذَلَهُ عَاذِلٌ أَغْرَاهُ عَذْلُهُ، وَسَارَ بِهِ فِي طَرِيقِ مَطْلُوبِهِ، يُنَادِي عَلَيْهِ شَاهِدُ حَالِهِ بِلِسَانِ مَقَالِهِ: وَقَفَ الْهَوَى بِي حَيْثُ أَنْتِ فَلَيْسَ *** لِي مُتَأَخَّرٌ عَنْهُ وَلَا مُتَقَدَّمُ وَأَهَنْتِنِي فَأَهَنْتُ نَفْسِي جَاهِدًا *** مَا مَنْ يَهُونُ عَلَيْكِ مِمَّنْ يُكْرَمُ أَشْبَهْتِ أَعْدَائِي فَصِرْتُ أُحِبُّهُمْ *** إِذْ كَانَ حَظِّي مِنْكِ حَظِّي مِنْهُمْ أَجِدُ الْمَلَامَةَ فِي هَوَاكِ لَذِيذَةً *** حُبًّا لِذِكْرِكِ فَلْيَلُمْنِي اللُّوَّمُ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالسُّؤَالِ الْأَوَّلِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الِاسْتِفْتَاءُ، وَالدَّاءُ الَّذِي طَلَبَ لَهُ الدَّوَاءَ. قِيلَ: نَعَمْ، الْجَوَابُ مِنْ رَأْسٍ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ دَاءٍ إِلَّا جَعَلَ لَهُ دَوَاءً،عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ». وَالْكَلَامُ فِي دَوَاءِ دَاءِ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْمَحَبَّةِ الْهَوَائِيَّةِ مِنْ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَسْمُ مَادَّتِهِ قَبْلَ حُصُولِهَا. وَالثَّانِي: قَلْعُهَا بَعْدَ نُزُولِهِ، وَكِلَاهُمَا يَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَمُتَعَذِّرٌ عَلَى مَنْ لَمْ يُعِنْهُ اللَّهُ، فَإِنَّ أَزِمَّةَ الْأُمُورِ بِيَدَيْهِ. فَأَمَّا الطَّرِيقُ الْمَانِعُ مِنْ حُصُولِ هَذَا الدَّاءِ، فَأَمْرَانِ: غَضُّ الْبَصَرِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّ النَّظْرَةَ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ، وَمَنْ أَطْلَقَ لَحَظَاتِهِ دَامَتْ حَسَرَاتُهُ، وَفِي غَضِّ الْبَصَرِ عِدَّةُ مَنَافِعَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ غَايَةُ سَعَادَةِ الْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ أَنْفَعُ مِنَ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَمَا شَقِيَ مَنْ شَقِيَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا بِتَضْيِيعِ أَوَامِرِهِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ أَثَرِ السَّهْمِ الْمَسْمُومِ -الَّذِي لَعَلَّ فِيهِ هَلَاكَهُ- إِلَى قَلْبِهِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ يُورِثُ الْقَلْبَ أُنْسًا بِاللَّهِ وَجَمْعِيَّةً عَلَيْهِ، فَإِنَّ إِطْلَاقَ الْبَصَرِ يُفَرِّقُ الْقَلْبَ وَيُشَتِّتُهُ، وَيُبْعِدُهُ عَنِ اللَّهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْقَلْبِ شَيْءٌ أَضَرُّ مِنْ إِطْلَاقِ الْبَصَرِ، فَإِنَّهُ يُورِثُ الْوَحْشَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ. الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ يُقَوِّي الْقَلْبَ وَيُفْرِحُهُ، كَمَا أَنَّ إِطْلَاقَ الْبَصَرِ يُضْعِفُهُ وَيُحْزِنُهُ. الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ يُكْسِبُ الْقَلْبَ نُورًا، كَمَا أَنَّ إِطْلَاقَهُ يُلْبِسُهُ ظُلْمَةً، وَلِهَذَا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ آيَةَ النُّورِ عُقَيْبَ الْأَمْرِ بِغَضِّ الْبَصَرِ، فَقَالَ: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [سُورَةُ النُّورِ: 30]. ثُمَّ قَالَ إِثْرَ ذَلِكَ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [سُورَةُ النُّورِ: 35]. أَيْ مَثَلُ نُورِهِ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي امْتَثَلَ أَوَامِرَهُ وَاجْتَنَبَ نَوَاهِيَهُ، وَإِذَا اسْتَنَارَ الْقَلْبُ أَقْبَلَتْ وُفُودُ الْخَيْرَاتِ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، كَمَا أَنَّهُ إِذَا أَظْلَمَ أَقْبَلَتْ سَحَائِبُ الْبَلَاءِ وَالشَّرِّ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَمَا شِئْتَ مِنْ بِدَعٍ وَضَلَالَةٍ، وَاتِّبَاعِ هَوًى، وَاجْتِنَابِ هُدًى، وَإِعْرَاضٍ عَنْ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ، وَاشْتِغَالٍ بِأَسْبَابِ الشَّقَاوَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكْشِفُهُ لَهُ النُّورُ الَّذِي فِي الْقَلْبِ، فَإِذَا نَفَذَ ذَلِكَ النُّورُ بَقِيَ صَاحِبُهُ كَالْأَعْمَى الَّذِي يَجُوسُ فِي حَنَادِسِ الظَّلَامِ. السَّادِسَةُ: أَنَّهُ يُورِثُ فِرَاسَةً صَادِقَةً يُمَيَّزُ بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ، وَكَانَ شُجَاعٌ الْكِرْمَانِيُّ يَقُولُ: مَنْ عَمَّرَ ظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَبَاطِنَهُ بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ، وَغَضَّ بَصَرَهُ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَكَفَّ نَفْسَهُ عَنِ الشُّبَهَاتِ، وَاغْتَذَى بِالْحَلَالِ، لَمْ تُخْطِئْ لَهُ فِرَاسَةٌ وَكَانَ شُجَاعًا لَا تُخْطِئُ لَهُ فِرَاسَةٌ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يَجْزِي الْعَبْدَ عَلَى عَمَلِهِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ لِلَّهِ شَيْئًا عَوَّضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ، فَإِذَا غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، عَوَّضَهُ اللَّهُ بِأَنْ يُطْلِقَ نُورَ بَصِيرَتِهِ، عِوَضًا عَنْ حَبْسِ بَصَرِهِ لِلَّهِ، وَيَفْتَحُ عَلَيْهِ بَابَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، وَالْمَعْرِفَةِ وَالْفِرَاسَةِ الصَّادِقَةِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي إِنَّمَا تُنَالُ بِبَصِيرَةٍ، فَقَالَ تَعَالَى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [سُورَةُ الْحِجْرِ: 27]. فَوَصَفَهُمْ بِالسَّكْرَةِ الَّتِي هِيَ فَسَادُ الْعَقْلِ، وَالْعَمَهِ الَّذِي هُوَ فَسَادُ الْبَصِيرَةِ، فَالتَّعَلُّقُ بِالصُّوَرِ يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْلِ، وَعَمَهَ الْبَصِيرَةِ، وَسُكْرَ الْقَلْبِ، كَمَا قَالَ الْقَائِلٌ: سَكْرَانُ سُكْرُ هَوًى وَسُكْرُ مُدَامَةٍ *** وَمَتَّى إِفَاقَةُ مَنْ بِهِ سُكْرَانِ وَقَالَ الْآخَرُ: قَالُوا جُنِنْتَ بِمَنْ تَهْوَى فَقُلْتُ لَهُمْ *** الْعِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالْمَجَانِينِ *** الْعِشْقُ لَا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صَاحِبُهُ *** وَإِنَّمَا يُصْرَعُ الْمَجْنُونُ فِي الْحِينِ السَّابِعَةُ: أَنَّهُ يُورِثُ الْقَلْبَ ثَبَاتًا وَشَجَاعَةً وَقُوَّةً، فَجَمَعَ اللَّهُ لَهُ بَيْنَ سُلْطَانِ النُّصْرَةِ وَالْحُجَّةِ، وَسُلْطَانُ الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ، كَمَا فِي الْأَثَرِ: الَّذِي يُخَالِفُ هَوَاهُ، يَفِرُّ الشَّيْطَانُ مِنْ ظِلِّهِ». وَضِدُّ هَذَا تَجِدُ فِي الْمُتَّبِعِ لِهَوَاهُ -مِنْ ذُلِّ النَّفْسِ وَوَضَاعَتِهَا وَمَهَانَتِهَا وَخِسَّتِهَا وَحَقَارَتِهَا- مَا جَعَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيمَنْ حَصَاهُ. كَمَا قَالَ الْحَسَنُ: "إِنَّهُمْ وَإِنْ طَقْطَقَتْ بِهِمُ الْبِغَالُ، وَهَمْلَجَتْ بِهِمُ الْبَرَاذِينُ، إِنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ فِي رِقَابِهِمْ، أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ". وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعِزَّ قَرِينَ طَاعَتِهِ، وَالذُّلَّ قَرِينَ مَعْصِيَتِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ: 8]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 139]. وَالْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ، وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [سُورَةُ فَاطِرٍ: 10]. أَيْ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلْيَطْلُبْهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَذِكْرِهِ مِنَ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَفِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ: إِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ» وَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فَقَدْ وَالَاهُ فِيمَا أَطَاعَهُ فِيهِ، وَلَهُ مِنَ الْعِزِّ بِحَسَبِ طَاعَتِهِ، وَمَنْ عَصَاهُ فَقَدْ عَادَاهُ فِيمَا عَصَاهُ فِيهِ، وَلَهُ مِنَ الذُّلِّ بِحَسَبِ مَعْصِيَتِهِ. الثَّامِنُ: أَنَّهُ يُسْدَلُ عَلَى الشَّيْطَانِ مَدْخَلُهُ مِنَ الْقَلْبِ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ مَعَ النَّظْرَةِ وَيَنْفُذُ مَعَهَا إِلَى الْقَلْبِ أَسْرَعَ مِنْ نُفُوذِ الْهَوَاءِ فِي الْمَكَانِ الْخَالِي، فَيُمَثِّلُ لَهُ صُورَةَ الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ وَيُزَيِّنُهَا، وَيَجْعَلُهَا صَنَمًا يَعْكُفُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ ثُمَّ يَعِدُهُ وَيُمَنِّيهِ، وَيُوقِدُ عَلَى الْقَلْبِ نَارَ الشَّهْوَةِ، وَيُلْقِي عَلَيْهَا حَطَبَ الْمَعَاصِي الَّتِي لَمْ يَكُنْ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا بِدُونِ تِلْكَ الصُّورَةِ، فَيَصِيرُ الْقَلْبُ فِي اللَّهَبِ. فَمِنْ ذَلِكَ اللَّهَبِ تِلْكَ الْأَنْفَاسُ الَّتِي يَجِدُ فِيهَا وَهَجَ النَّارِ، وَتِلْكَ الزَّفَرَاتُ وَالْحَرْقَاتُ، فَإِنَّ الْقَلْبَ قَدْ أَحَاطَتْ بِهِ النِّيرَانُ بِكُلِّ جَانِبٍ، فَهُوَ فِي وَسَطِهَا كَالشَّاةِ فِي وَسَطِ التَّنُّورِ، وَلِهَذَا كَانَتْ عُقُوبَةُ أَصْحَابِ الشَّهَوَاتِ لِلصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ: أَنْ جُعِلَ لَهُمْ فِي الْبَرْزَخِ تَنُّورٌ مِنَ النَّارِ، وَأُودِعَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِيهِ إِلَى يَوْمِ حَشْرِ أَجْسَادِهِمْ، كَمَا أَرَاهَا اللَّهُ لِنَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْمَنَامِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ. التَّاسِعَةُ: أَنَّهُ يُفَرِّغُ الْقَلْبَ لِلْفِكْرَةِ فِي مَصَالِحِهِ وَالِاشْتِغَالِ بِهَا، وَإِطْلَاقُ الْبَصَرِ يُنْسِيهِ ذَلِكَ وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَيَنْفَرِطُ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَيَقَعُ فِي اتِّبَاعِ هَوَاهُ وَفِي الْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [سُورَةُ الْكَهْفِ: 28]. وَإِطْلَاقُ النَّظَرِ يُوجِبُ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ بِحَسَبِهِ. الْعَاشِرَةُ: أَنَّ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْقَلْبِ مَنْفَذًا وَطَرِيقًا يُوجِبُ انْتِقَالَ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، وَأَنْ يَصْلُحَ بِصَلَاحِهِ، وَيَفْسُدَ بِفَسَادِهِ، فَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ؛ فَسَدَ النَّظَرُ، وَإِذَا فَسَدَ النَّظَرُ؛ فَسَدَ الْقَلْبُ، وَكَذَلِكَ فِي جَانِبِ الصَّلَاحِ، فَإِذَا خَرِبَتِ الْعَيْنُ وَفَسَدَتْ؛ خَرِبَ الْقَلْبُ وَفَسَدَ، وَصَارَ كَالْمَزْبَلَةِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ النَّجَاسَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ وَالْأَوْسَاخِ، فَلَا يَصْلُحُ لِسُكْنَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالْأُنْسِ بِهِ وَالسُّرُورِ بِقُرْبِهِ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَسْكُنُ فِيهِ أَضْدَادُ ذَلِكَ. فَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى بَعْضِ فَوَائِدِ غَضِّ الْبَصَرِ نُطْلِعُكَ عَلَى مَا وَرَاءَهَا: الطَّرِيقُ الثَّانِي الْمَانِعُ مِنْ حُصُولِ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ: اشْتِغَالُ الْقَلْبِ بِمَا يَصُدُّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُقُوعِ فِيهِ، وَهُوَ إِمَّا خَوْفٌ مُقْلِقٌ أَوْ حُبٌّ مُزْعِجٌ، فَمَتَى خَلَا الْقَلْبُ مِنْ خَوْفِ مَا فَوَاتُهُ أَضَرُّ عَلَيْهِ مِنْ حُصُولِ هَذَا الْمَحْبُوبِ، أَوْ خَوْفِ مَا حُصُولُهُ أَضَرُّ عَلَيْهِ مِنْ فَوَاتِ هَذَا الْمَحْبُوبِ، أَوْ مَحَبَّتِهِ مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ وَخَيْرٌ لَهُ مِنْ هَذَا الْمَحْبُوبِ، وَفَوَاتُهُ أَضَرُّ عَلَيْهِ مِنْ فَوَاتِ هَذَا الْمَحْبُوبِ، لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ عِشْقِ الصُّوَرِ. وَشَرْحُ هَذَا: أَنَّ النَّفْسَ لَا تَتْرُكُ مَحْبُوبًا إِلَّا لِمَحْبُوبٍ أَعْلَى مِنْهُ، أَوْ خَشْيَةَ مَكْرُوهٍ حُصُولُهُ أَضَرُّ عَلَيْهِ مِنْ فَوَاتِ هَذَا الْمَحْبُوبِ، وَهَذَا يَحْتَاجُ صَاحِبُهُ إِلَى أَمْرَيْنِ إِنْ فَقَدَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا لَمْ يَنْتَفِعْ بِنَفْسِهِ. أَحَدُهُمَا: بَصِيرَةٌ صَحِيحَةٌ يُفَرِّقُ بِهَا بَيْنَ دَرَجَاتِ الْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ، فَيُؤْثِرُ أَعْلَى الْمَحْبُوبَيْنِ عَلَى أَدْنَاهُمَا، وَيَحْتَمِلُ أَدْنَى الْمَكْرُوهَيْنِ لِيَخْلُصَ مِنْ أَعْلَاهُمَا، وَهَذَا خَاصَّةُ الْعَقْلِ، وَلَا يُعَدُّ عَاقِلًا مَنْ كَانَ بِضِدِّ ذَلِكَ، بَلْ قَدْ تَكُونُ الْبَهَائِمُ أَحْسَنَ حَالًا مِنْهُ. الثَّانِي: قُوَّةُ عَزْمٍ وَصَبْرٍ يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَكَثِيرًا مَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ قَدْرَ التَّفَاوُتِ، وَلَكِنْ يَأْبَى لَهُ ضَعْفُ نَفْسِهِ وَهَمَّتِهِ وَعَزِيمَتِهِ عَلَى أَشْيَاءَ لَا تَنْفَعُ مِنْ خِسَّتِهِ وَحِرْصِهِ وَوَضَاعَةِ نَفْسِهِ وَخِسَّةِ هِمَّتِهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَنْتَفِعُ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ، وَقَدْ مَنَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِمَامَةَ الدِّينِ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الصَّبْرِ وَالْيَقِينِ، فَقَالَ تَعَالَى، وَبِقَوْلِهِ يَهْتَدِي الْمُهْتَدُونَ مِنْهُمْ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [سُورَةُ السَّجْدَةِ: 24]. وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، وَضِدُّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ فِي نَفْسِهِ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ، فَالْأَوَّلُ يَمْشِي فِي نُورِهِ وَيَمْشِي النَّاسُ فِي نُورِهِ، وَالثَّانِي قَدْ طُفِئَ نُورُهُ، فَهُوَ يَمْشِي فِي الظُّلُمَاتِ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي ظُلْمَتِهِ، وَالثَّالِثُ يَمْشِي فِي نُورِهِ وَحْدَهُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الْقَلْبِ حُبُّ الْمَحْبُوبِ الْأَعْلَى وَعِشْقُ الصُّوَرِ أَبَدًا، بَلْ هُمَا ضِدَّانِ لَا يَتَلَاقَيَانِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَمَنْ كَانَتْ قُوَّةُ حُبِّهِ كُلُّهَا لِلْمَحْبُوبِ الْأَعْلَى الَّذِي مَحَبَّةُ مَا سِوَاهُ بَاطِلَةٌ وَعَذَابٌ عَلَى صَاحِبِهَا صَرَفَهُ ذَلِكَ عَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ، وَإِنْ أَحَبَّهُ لَمْ يُحِبَّهُ إِلَّا لِأَجْلِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَى مَحَبَّتِهِ، أَوْ قَاطِعًا لَهُ عَمَّا يُضَادُّ مَحَبَّتَهُ وَيُنْقِصُهَا، وَالْمَحَبَّةُ الصَّادِقَةُ تَقْتَضِيتَوْحِيدَ الْمَحْبُوبِ،وَأَنْ لَا يُشْرِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي مَحَبَّتِهِ، وَإِذَا كَانَ الْمَحْبُوبُ مِنَ الْخَلْقِ يَأْنَفُ وَيَغَارُ أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ مَحَبَّةُ غَيْرِهِ فِي مَحَبَّتِهِ، وَيَمْقُتُهُ لِذَلِكَ، وَيُبْعِدُهُ لَا يُحْظِيهِ بِقُرْبِهِ، وَيَعُدُّهُ كَاذِبًا فِي دَعْوَى مَحَبَّتِهِ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِصَرْفِ كُلِّ قُوَّةِ الْمَحَبَّةِ إِلَيْهِ، فَكَيْفَ بِالْحَبِيبِ الْأَعْلَى الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْمَحَبَّةُ إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ، وَكُلُّ مَحَبَّةٍ لِغَيْرِهِ فَهِيَ عَذَابٌ عَلَى صَاحِبِهَا وَوَبَالٌ؟ وَلِهَذَا لَا يَغْفِرُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَحَبَّةِ، وَيَغْفِرَ مَا دُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ. فَمَحَبَّةُ الصُّوَرِ تُفَوِّتُ مَحَبَّةَ مَا هُوَ أَنْفَعُ لِلْعَبْدِ، بَلْ تُفَوِّتُ مَحَبَّةَ مَا لَيْسَ لَهُ صَلَاحٌ وَلَا نَعِيمٌ، وَلَا حَيَاةٌ نَافِعَةٌ إِلَّا بِمَحَبَّتِهِ وَحْدَهُ، فَلْيَخْتَرْ إِحْدَى الْمَحَبَّتَيْنِ فَإِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي الْقَلْبِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ مِنْهُ، بَلْ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَذِكْرِهِ وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ، ابْتَلَاهُ بِمَحَبَّةِ غَيْرِهِ؛ فَيُعَذِّبُهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْبَرْزَخِ وَفِي الْآخِرَةِ، فَإِمَّا أَنْ يُعَذِّبَهُ بِمَحَبَّةِ الْأَوْثَانِ، أَوْ بِمَحَبَّةِ الصُّلْبَانِ، أَوْ بِمَحَبَّةِ الْمُرْدَانِ، أَوْ بِمَحَبَّةِ النِّسْوَانِ، أَوْ بِمَحَبَّةِ الْعُشَرَاءِ وَالْإِخْوَانِ، أَوْ بِمَحَبَّةِ مَا دُونُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِي غَايَةِ الْحَقَارَةِ وَالْهَوَانِ، فَالْإِنْسَانُ عَبْدُ مَحْبُوبِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، كَمَا قِيلَ: أَنْتَ الْقَتِيلُ بِكُلِّ مَنْ أَحْبَبْتَهُ *** فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ فِي الْهَوَى مَنْ تَصْطَفِي فَمَنْ لَمْ يَكُنْ إِلَهُهُ مَالِكَهُ وَمَوْلَاهُ، كَانَ إِلَهُهُ هَوَاهُ، قَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [سُورَةُ الْجَاثِيَةِ: 23].
وَخَاصِّيَّةُ التَّعَبُّدِ: الْحُبُّ مَعَ الْخُضُوعِ، وَالذُّلِّ لِلْمَحْبُوبِ، فَمَنْ أَحَبَّ مَحْبُوبًا وَخَضَعَ لَهُ فَقَدْ تَعَبَّدَ قَلْبَهُ لَهُ، بَلِ التَّعَبُّدُ آخِرُمَرَاتِبِ الْحُبِّ،وَيُقَالُ لَهُ التَّتَيُّمُ أَيْضًا، فَإِنَّ أَوَّلَ مَرَاتِبِهِ الْعَلَاقَةُ، وَسُمِّيَتْ عَلَاقَةً لِتَعَلُّقِ الْمُحِبِّ بِالْمَحْبُوبِ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَعُلِّقْتُ لَيْلَى وَهْيَ ذَاتُ تَمَائِمِ *** وَلَمْ يَبْدُ لِلْأَتْرَابِ مِنْ ثَدْيِهَا حَجْمُ وَقَالَ الْآخَرُ: أَعَلَاقَةٌ أُمَّ الْوَلِيدِ بُعَيْدَ مَا *** أَفْنَانُ رَأْسِكَ كَالثِّغَامِ الْمُخْلِسِ ثُمَّ بَعْدَهَا الصَّبَابَةُ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِانْصِبَابِ الْقَلْبِ إِلَى الْمَحْبُوبِ، قَالَ الشَّاعِرُ: تَشَكَّى الْمُحِبُّونَ الصَّبَابَةَ لَيْتَنِي *** تَحَمَّلْتُ مَا يَلْقَوْنَ مِنْ بَيْنِهِمْ وَحْدِي فَكَانَتْ لِقَلْبِي لَذَّةُ الْحُبِّ كُلُّهَا *** فَلَمْ يَلْقَهَا قَبْلِي مُحِبٌّ وَلَا بَعْدِي ثُمَّ الْغَرَامُ، وَهُوَ لُزُومُ الْحُبِّ لِلْقَلْبِ لُزُومًا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْغَرِيمُ غَرِيمًا؛ لِمُلَازَمَتِهِ صَاحِبَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [سُورَةُ الْفُرْقَانِ: 65]. وَقَدْ أُولِعَ الْمُتَأَخِّرُونَ بِاسْتِعْمَالِ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْحُبِّ، وَقَلَّ أَنْ تَجِدَهُ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ. ثُمَّ الْعِشْقُ وَهُوَ إِفْرَاطُ الْمَحَبَّةِ، وَلِهَذَا لَا يُوصَفُ بِهِ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلَا يُطْلَقُ فِي حَقِّهِ. ثُمَّ الشَّوْقُ وَهُوَ سَفَرُ الْقَلْبِ إِلَى الْمَحْبُوبِ أَحَثَّ السَّفَرِ، وَقَدْ جَاءَ إِطْلَاقُهُ فِي حَقِّ الرَّبِّ تَعَالَى كَمَا فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةً فَأَوْجَزَ فِيهَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَمَا إِنِّي دَعَوْتُ فِيهَا بِدَعْوَاتٍ كَانَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَدْعُو بِهِنَّ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي إِذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَأَسْأَلُكَ الشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ». وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: طَالَ شَوْقُ الْأَبْرَارِ إِلَى لِقَائِي، وَأَنَا إِلَى لِقَائِهِمْ أَشَدُّ شَوْقًا». وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْلِهِ: مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ». وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْبَصَائِرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ: 5]. لَمَّا عَلِمَ سُبْحَانَهُ شِدَّةَ شَوْقِ أَوْلِيَائِهِ إِلَى لِقَائِهِ، وَأَنَّ قُلُوبَهُمْ لَا تَهْتَدِي دُونَ لِقَائِهِ، ضَرَبَ لَهُمْ أَجَلًا وَمَوْعِدًا لِلِقَائِهِ، وَتَسْكُنُ نُفُوسُهُمْ بِهِ، وَأَطْيَبُ الْعَيْشِ وَأَلَذُّهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ عَيْشُ الْمُحِبِّينَ الْمُشْتَاقِينَ الْمُسْتَأْنِسِينَ، فَحَيَاتُهُمْ هِيَ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ الْحَقِيقِيَّةُ، وَلَا حَيَاةَ لِلْقَلْبِ أَطْيَبَ وَلَا أَنْعَمَ وَلَا أَهْنَأَ مِنْهَا، وَهِيَ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [سُورَةُ النَّحْلِ: 97]. لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهَا الْحَيَاةَ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ، وَمِنْ طِيبِ الْمَأْكَلِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَنْكَحِ، بَلْ رُبَّمَا زَادَ أَعْدَاءُ اللَّهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ فِي ذَلِكَ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، وَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلِّ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا أَنْ يُحْيِيَهُ حَيَاةً طَيِّبَةً، فَهُوَ صَادِقُ الْوَعْدِ الَّذِي لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ، وَأَيُّ حَيَاةٍ أَطْيَبُ مِنْ حَيَاةِ مَنِ اجْتَمَعَتْ هُمُومُهُ كُلُّهَا وَصَارَتْ هَمًّا وَاحِدًا فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ؟ وَلَمْ يَتَشَعَّبْ قَلْبُهُ، بَلْ أَقْبَلَ عَلَى اللَّهِ، وَاجْتَمَعَتْ إِرَادَتُهُ وَأَفْكَارُهُ الَّتِي كَانَتْ مُتَقَسِّمَةً بِكُلِّ وَادٍ مِنْهَا شُعْبَةٌ عَلَى اللَّهِ، فَصَارَ ذِكْرُهُ بِمَحْبُوبِهِ الْأَعْلَى وَحُبُّهُ وَالشَّوْقُ إِلَى لِقَائِهِ، وَالْأُنْسُ بِقُرْبِهِ هُوَ الْمُسْتَوْلِي عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ تَدُورُ هُمُومُهُ وَإِرَادَتُهُ وَقُصُودُهُ بِكُلِّ خَطَرَاتِ قَلْبِهِ، فَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ بِاللَّهِ، وَإِنْ نَطَقَ نَطَقَ بِاللَّهِ، وَإِنْ سَمِعَ فَبِهِ يَسْمَعُ، وَإِنْ أَبْصَرَ فَبِهِ يُبْصِرُ، وَبِهِ يَبْطِشُ، وَبِهِ يَمْشِي، وَبِهِ يَسْكُنُ، وَبِهِ يَحْيَا، وَبِهِ يَمُوتُ، وَبِهِ يُبْعَثُ، كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَنَّهُ قَالَ: مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَمْشِي، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ، كَتَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ». فَتَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ الْإِلَهِيُّ -الَّذِي حَرَامٌ عَلَى غَلِيظِ الطَّبْعِ كَسِيفِ الْقَلْبِ فَهْمُ مَعْنَاهُ وَالْمُرَادُ بِهِ- حَصْرَ أَسْبَابِ مَحَبَّتِهِ فِي أَمْرَيْنِ: أَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ. وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ أَدَاءَ فَرَائِضِهِ أَحَبُّ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ الْمُتَقَرِّبُونَ، ثُمَّ بَعْدَهَا النَّوَافِلُ، وَأَنَّ الْمُحِبَّ لَا يَزَالُ يُكْثِرُ مِنَ النَّوَافِلِ حَتَّى يَصِيرَ مَحْبُوبًا لِلَّهِ، فَإِذَا صَارَ مَحْبُوبًا لِلَّهِ أَوْجَبَتْ مَحَبَّتُهُ لِلَّهِ لَهُ مَحَبَّةً أُخْرَى مِنْهُ فَوْقَ الْمَحَبَّةِ الْأُولَى، فَشَغَلَتْ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ قَلْبَهُ عَنِ الْفِكْرَةِ وَالِاهْتِمَامِ بِغَيْرِ مَحْبُوبِهِ، وَمَلَكَتْ عَلَيْهِ رُوحَهُ، وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ سِعَةٌ لِغَيْرِ مَحْبُوبِهِ أَلْبَتَّةَ، فَصَارَ ذِكْرُ مَحْبُوبِهِ وَحُبُّهُ وَمَثَلُهُ الْأَعْلَى، وَمَالِكًا لِزِمَامِ قَلْبِهِ مُسْتَوْلِيًا عَلَى رُوحِهِ اسْتِيلَاءَ الْمَحْبُوبِ عَلَى مَحَبَّةِ الصَّادِقِ فِي مَحَبَّتِهِ، الَّتِي قَدِ اجْتَمَعَتْ قُوَى مَحَبَّةِ حُبِّهِ كُلُّهَا لَهُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْمُحِبَّ إِنْ سَمِعَ سَمِعَ بِمَحْبُوبِهِ، وَإِنْ أَبْصَرَ أَبْصَرَ بِهِ، وَإِنْ بَطَشَ بَطَشَ بِهِ، وَإِنْ مَشَى مَشَى بِهِ، فَهُوَ فِي قَلْبِهِ وَمَعَهُ وَأَنِيسُهُ وَصَاحِبُهُ، فَالْبَاءُ هَاهُنَا لِلْمُصَاحَبَةِ، وَهِيَ مُصَاحَبَةٌ لَا نَظِيرَ لَهَا، وَلَا تُدْرَكُ بِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ عَنْهَا وَالْعِلْمِ بِهَا، فَالْمَسْأَلَةُ حَالِيَّةٌ لَا عِلْمِيَّةٌ مَحْضَةٌ. وَإِذَا كَانَ الْمَخْلُوقُ يَجِدُ هَذَا فِي مَحَبَّةِ الْمَخْلُوقِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ لَهَا وَلَمْ يُفْطَرْ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُحِبِّينَ: خَيَالُكَ فِي عَيْنِي وَذِكْرُكَ فِي فَمِي *** وَمَثْوَاكَ فِي قَلْبِي فَأَيْنَ تَغِيبُ وَقَالَ الْآخَرُ: وَمِنْ عَجَبٍ أَنِّي أَحِنُّ إِلَيْهِمُ *** فَأَسْأَلُ عَنْهُمْ مَنْ لَقِيتُ وَهُمْ مَعِي وَتَطْلُبُهُمْ عَيْنِي وَهُمْ فِي سَوَادِهَا *** وَيَشْتَاقُهُمْ قَلْبِي وَهُمْ بَيْنَ أَضْلُعِي وَهَذَا أَلْطَفُ مِنْ قَوْلِ الْآخَرِ: إِنْ قُلْتُ غِبْتِ فَقَلْبِي لَا يُصَدِّقُنِي *** إِذْ أَنْتَ فِيهِ مَكَانَ السِّرِّ لَمْ تَغِبِ أَوْ قُلْتُ مَا غِبْتِ قَالَ الطَّرْفُ ذَا كَذِبٌ *** فَقَدْ تَحَيَّرْتُ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَدْنَى إِلَى الْمُحِبِّ مِنْ مَحْبُوبِهِ، وَرُبَّمَا تَمَكَّنَتْ مِنْهُ الْمَحَبَّةُ، حَتَّى يَصِيرَ أَدْنَى إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ، بِحَيْثُ يَنْسَى نَفْسَهُ وَلَا يَنْسَاهُ، كَمَا قَالَ: أُرِيدُ لِأَنْسَى ذِكْرَهَا فَكَأَنَّمَا *** تُمَثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ سَبِيلِ وَقَالَ الْآخَرُ: يُرَادُ مِنَ الْقَلْبِ نِسْيَانُكُمْ *** وَتَأْبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِلِ وَخَصَّ فِي الْحَدِيثِ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْيَدَ وَالرِّجْلَ بِالذِّكْرِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآلَاتِ آلَاتُ الْإِدْرَاكِ وَآلَاتُ الْفِعْلِ، وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ يُورِدَانِ عَلَى الْقَلْبِ الْإِرَادَةَ وَالْكَرَاهَةَ، وَيَجْلِبَانِ إِلَيْهِ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ، فَيَسْتَعْمِلُ الْيَدَ وَالرِّجْلَ، فَإِذَا كَانَ سَمْعُ الْعَبْدِ بِاللَّهِ، وَبَصَرُهُ بِاللَّهِ كَانَ مَحْفُوظًا فِي آلَاتِ إِدْرَاكِهِ، وَكَانَ مَحْفُوظًا فِي حُبِّهِ وَبُغْضِهِ، فَحُفِظَ فِي بَطْشِهِ وَمَشْيِهِ. وَتَأَمَّلْ كَيْفَ اكْتَفَى بِذِكْرِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ عَنِ اللِّسَانِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ إِدْرَاكُ السَّمْعِ الَّذِي يَحْصُلُ بِاخْتِيَارِهِ تَارَةً، وَبِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ تَارَةً، وَكَذَلِكَ الْبَصَرُ قَدْ يَقَعُ بِغَيْرِ الِاخْتِيَارِ فَجْأَةً، وَكَذَلِكَ حَرَكَةُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْهُمَا، فَكَيْفَ بِحَرَكَةِ اللِّسَانِ الَّتِي لَا تَقَعُ إِلَّا بِقَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ؟ وَقَدْ يَسْتَغْنِي الْعَبْدُ عَنْهَا إِلَّا حَيْثُ أُمِرَ بِهَا. وَأَيْضًا فَانْفِعَالُ اللِّسَانِ عَنِ الْقَلْبِ أَتَمُّ مِنَ انْفِعَالِ سَائِرِ الْجَوَارِحِ، فَإِنَّهُ تُرْجُمَانُهُ وَرَسُولُهُ. وَتَأَمَّلْ كَيْفَ حَقَّقَ تَعَالَى كَوْنَ الْعَبْدِ بِهِ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَبَطْشُهُ وَمَشْيُهُ بِقَوْلِهِ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا» تَحْقِيقًا لِكَوْنِهِ مَعَ عَبْدِهِ، وَكَوْنِ عَبْدِهِ فِي إِدْرَاكَاتِهِ، بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَحَرَكَاتِهِ بِيَدَيْهِ وَرِجْلِهِ. وَتَأَمَّلْ كَيْفَ قَالَ: فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ» وَلَمْ يَقُلْ: فَلِي يَسْمَعُ، وَلِي يُبْصِرُ، وَرُبَّمَا يَظُنُّ الظَّنَّانُ أَنَّ اللَّامَ أَوْلَى بِهَذَا الْمَوْضِعِ، إِذْ هِيَ أَدَلُّ عَلَى الْغَايَةِ، وَوُقُوعُ هَذِهِ الْأُمُورِ لِلَّهِ، وَذَلِكَ أَخَصُّ مِنْ وُقُوعِهَا بِهِ، وَهَذَا مِنَ الْوَهْمِ وَالْغَلَطِ، إِذْ لَيْسَتِ الْبَاءُ هَاهُنَا بِمُجَرَّدِ الِاسْتِعَانَةِ، فَإِنَّ حَرَكَاتِ الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَإِدْرَاكَاتِهِمْ إِنَّمَا هِيَ بِمَعُونَةِ اللَّهِ لَهُمْ، وَإِنَّ الْبَاءَ هَاهُنَا لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ: إِنَّمَا يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ وَيَبْطِشُ وَيَمْشِي وَأَنَا صَاحِبُهُ مَعَهُ، كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ» وَهَذِهِ هِيَ الْمَعِيَّةُ الْخَاصَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 40]. وَقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ: 69]. وَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [سُورَةُ النَّحْلِ: 128]. وَقَوْلِهِ: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سُورَةُ الْأَنْفَالِ: 46]. وَقَوْلِهِ: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 62]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [سُورَةُ طه: 46]. فَهَذِهِ الْبَاءُ مُفِيدَةٌ لِمَعْنَى هَذِهِ الْمَعِيَّةِ دُونَ اللَّامِ، وَلَا يَتَأَتَّى لِلْعَبْدِ الْإِخْلَاصُ وَالصَّبْرُ وَالتَّوَكُّلُ، وَنُزُولُهُ فِي مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَّا بِهَذِهِ الْبَاءِ وَهَذِهِ الْمَعِيَّةِ. فَمَتَى كَانَ الْعَبْدُ بِاللَّهِ هَانَتْ عَلَيْهِ الْمَشَاقُّ، وَانْقَلَبَتِ الْمَخَاوِفُ فِي حَقِّهِ، فَبِاللَّهِ يَهُونُ كُلُّ صَعْبٍ، وَيَسْهُلُ كُلُّ عَسِيرٍ، وَيَقْرُبُ كُلُّ بَعِيدٍ، وَبِاللَّهِ تَزُولُ الْهُمُومُ وَالْغُمُومُ وَالْأَحْزَانُ، فَلَا هَمَّ مَعَ اللَّهِ، وَلَا غَمَّ وَلَا حَزَنَ إِلَّا حَيْثُ يُفَوِّتُهُ الْعَبْدُ مَعْنَى هَذِهِ الْبَاءِ، فَيَصِيرُ قَلْبُهُ حِينَئِذٍ كَالْحُوتِ، إِذَا فَارَقَ الْمَاءَ يَثِبُ وَيَنْقَلِبُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ. وَلَمَّا حَصَلَتْ هَذِهِ الْمُوَافَقَةُ مِنَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ فِي مَحَابِّهِ؛ حَصَلَتْ مُوَافَقَةُ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ فِي حَوَائِجِهِ وَمَطَالِبِهِ، فَقَالَ: وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ». أَيْ: كَمَا وَافَقَنِي فِي مُرَادِي بِامْتِثَالِ أَوَامِرِي وَالتَّقَرُّبِ بِمَحَابِّي، فَأَنَا أُوَافِقُهُ فِي رَغْبَتِهِ وَرَهْبَتِهِ فِيمَا يَسْأَلُنِي أَنْ أَفْعَلَهُ بِهِ، وَيَسْتَعِيذُنِي أَنْ يَنَالَهُ، وَقَوِيَ أَمْرُ هَذِهِ الْمُوَافَقَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ حَتَّى اقْتَضَى تَرَدُّدَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ فِي إِمَاتَةِ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَالرَّبُّ تَعَالَى يَكْرَهُ مَا يَكْرَهُهُ عَبْدُهُ، وَيَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ، فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُمِيتَهُ وَلَكِنَّ مَصْلَحَتَهُ فِي إِمَاتَتِهِ، فَإِنَّهُ مَا أَمَاتَهُ إِلَّا لِيُحْيِيَهُ، وَلَا أَمْرَضَهُ إِلَّا لِيُصِحَّهُ، وَلَا أَفْقَرَهُ إِلَّا لِيُغْنِيَهُ، وَلَا مَنَعَهُ إِلَّا لِيُعْطِيَهُ، وَلَمْ يُخْرَجْ مِنَ الْجَنَّةِ فِي صُلْبِ أَبِيهِ إِلَّا لِيُعِيدَهُ إِلَيْهَا عَلَى أَحْسَنِ أَحْوَالِهِ، وَلَمْ يَقُلْ لِأَبِيهِ اخْرُجْ مِنْهَا إِلَّا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُعِيدَهُ إِلَيْهَا، فَهَذَا هُوَ الْحَبِيبُ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا سِوَاهُ، بَلْ لَوْ كَانَ فِي كُلِّ مَنْبَتِ شَعْرَةٍ مِنَ الْعَبْدِ مَحَبَّةٌ تَامَّةٌ لِلَّهِ، لَكَانَ بَعْضُ مَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَى عَبْدِهِ. نَقِّلْ فُؤَادَكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الْهَوَى *** مَا الْحُبُّ إِلَّا لِلْحَبِيبِ الْأَوَّلِ كَمْ مَنْزِلٍ فِي الْأَرْضِ يَأْلَفُهُ الْفَتَى *** وَحَنِينُهُ أَبَدًا لِأَوَّلِ مَنْزِلِ
ثُمَّ التَّتَيُّمُ، وَهُوَ آخِرُ مَرَاتِبِ الْحُبِّ، وَهُوَ تَعَبُّدُ الْمُحِبِّ لِمَحْبُوبِهِ، يُقَالُ تَيَّمَهُ الْحُبُّ، إِذَا عَبَّدَهُ، وَمِنْهُ: تَيْمُ اللَّهِ، أَيْ عَبْدُ اللَّهِ، وَحَقِيقَةُ التَّعَبُّدِ: الذُّلُّ وَالْخُضُوعُ لِلْمَحْبُوبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ أَيْ مُذَلَّلٌ، قَدْ ذَلَّلَتْهُ الْأَقْدَامُ، فَالْعَبْدُ هُوَ الَّذِي ذَلَّلَهُ الْحُبُّ وَالْخُضُوعُ لِمَحْبُوبِهِ، وَلِهَذَا كَانْتَ أَشْرَفُ أَحْوَالِ الْعَبْدِ وَمَقَامَاتِهِ فِي الْعُبُودِيَّةِ، فَلَا مَنْزِلَ لَهُ أَشْرَفُ مِنْهَا. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَكْرَمَ الْخَلْقِ عَلَيْهِ وَأَحَبَّهُمْ إِلَيْهِ، وَهُوَ رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعُبُودِيَّةِ فِي أَشْرَفِ مَقَامَاتِهِ، وَهِيَ مَقَامُ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَمَقَامُ التَّحَدِّي بِالنُّبُوَّةِ، وَمَقَامُ الْإِسْرَاءِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [سُورَةُ الْجِنِّ: 19]. وَقَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 23]. وَقَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: 1]. حَدِيثُ الشَّفَاعَةِ: اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، عَبْدٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَنَالَ مَقَامَ الشَّفَاعَةِ بِكَمَالِ عُبُودِيَّتِهِ، وَكَمَالِ مَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ أَنْوَاعِ الْمَحَبَّةِ مَعَ أَكْمَلِ أَنْوَاعِ الْخُضُوعِ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ وَمِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي مَنْ رَغِبَ عَنْهَا فَقَدْ سَفِهَ نَفْسَهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 130-133]. وَلِهَذَا كَانَ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ الشِّرْكُ.
وَأَصْلُ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، وَالْإِشْرَاكِ فِي الْمَحَبَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 165]. فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُشْرِكُ بِهِ نِدًّا يُحِبُّهُ كَمَا يُحِبُّ اللَّهَ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَنْدَادِ لِأَنْدَادِهِمْ. وَقِيلَ: بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ، فَإِنَّهُمْ وَإِنْ أَحَبُّوا اللَّهَ، لَكِنْ لَمَّا شَرِكُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْدَادِهِمْ فِي الْمَحَبَّةِ ضَعُفَتْ مَحَبَّتُهُمْ لِلَّهِ، وَالْمُوَحِّدُونَ لِلَّهِ لَمَّا خَلُصَتْ مَحَبَّتُهُمْ لَهُ كَانَتْ أَشَدَّ مِنْ مَحَبَّةِ أُولَئِكَ، وَالْعَدْلُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَنْدَادِ هُوَ فِي هَذِهِ الْمَحَبَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَمَّا كَانَ مُرَادُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ خُلُوصَ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ لَهُ، أَنْكَرَ عَلَى مَنِ اتَّخَذَ مِنْ دُونِهِ وَلِيًّا أَوْ شَفِيعًا غَايَةَ الْإِنْكَارِ، وَجَمْعُ ذَلِكَ تَارَةً، وَإِفْرَادُ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [سُورَةُ يُونُسَ: 3]. وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [سُورَةُ السَّجْدَةِ: 4]. وَقَالَ فِي الْإِفْرَادِ: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [سُورَةُ الزُّمَرِ: 43-44]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 51]. وَقَالَ تَعَالَى: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سُورَةُ الْجَاثِيَةِ: 10]. فَإِذَا وَالَى الْعَبْدُ رَبَّهُ وَحْدَهُ أَقَامَ لَهُ الشُّفَعَاءَ، وَعَقَدَ الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَصَارُوا أَوْلِيَاءَهُ فِي اللَّهِ، بِخِلَافِ مَنِ اتَّخَذَ مَخْلُوقًا وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ. فَهَذَا لَوْنٌ وَذَاكَ لَوْنٌ، كَمَا أَنَّ الشَّفَاعَةَ الشَّرِكِيَّةَ الْبَاطِلَةَ لَوْنٌ، وَالشَّفَاعَةَ الْحَقَّ الثَّابِتَةَ الَّتِي إِنَّمَا تُنَالُ بِالتَّوْحِيدِ لَوْنٌ، وَهَذَا مَوْضِعُ فُرْقَانٍ بَيْنَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَأَهْلِ الْإِشْرَاكِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ حَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ لَا تَحْصُلُ مَعَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ فِي الْمَحَبَّةِ، بِخِلَافِ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ، فَإِنَّهَا مِنْ لَوَازِمِ الْعُبُودِيَّةِ وَمُوجِبَاتِهَا، فَإِنَّ مَحَبَّةَ الرَّسُولِ -بَلْ تَقْدِيمُهُ فِي الْحُبِّ عَلَى الْأَنْفُسِ وَالْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ- لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهَا، إِذْ مَحَبَّتُهُ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ كَلُّ حُبٍّ فِي اللَّهِ وَلِلَّهِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ». وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ: لَا يَجِدُ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ إِلَّا مَنْ كَانَ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ». وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ: مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ». وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: مَا تَحَابَّ رَجُلَانِ فِي اللَّهِ إِلَّا كَانَ أَفْضَلُهُمَا أَشَدَّهُمَا حُبًّا لِصَاحِبِهِ». فَإِنَّ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ مِنْ لَوَازِمِ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمُوجِبَاتِهَا، وَكُلَّمَا كَانَتْ أَقْوَى كَانَ أَصْلُهَا كَذَلِكَ.
وَهَاهُنَا أَرْبَعَةُأَنْوَاعٍ مِنَ الْمَحَبَّةِ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهَا، وَإِنَّمَا ضَلَّ مَنْ ضَلَّ بِعَدَمِ التَّمْيِيزِ بَيْنَهَا. أَحَدُهَا: مَحَبَّةُ اللَّهِ، وَلَا تَكْفِي وَحْدَهَا فِي النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَالْفَوْزِ بِثَوَابِهِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَعُبَّادَ الصَّلِيبِ وَالْيَهُودَ وَغَيْرَهُمْ يُحِبُّونَ اللَّهَ. الثَّانِي: مَحَبَّةُ مَا يُحِبُّ اللَّهُ، وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي تُدْخِلُهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَتُخْرِجُهُ مِنَ الْكُفْرِ، وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَقْوَمُهُمْ بِهَذِهِ الْمَحَبَّةِ وَأَشَدُّهُمْ فِيهَا. الثَّالِثُ: الْحُبُّ لِلَّهِ وَفِيهِ، وَهِيَ مِنْ لَوَازِمِ مَحَبَّةِ مَا يُحِبُّ، وَلَا تَسْتَقِيمُ مَحَبَّةُ مَا يُحِبُّ إِلَّا فِيهِ وَلَهُ. الرَّابِعُ: الْمَحَبَّةُ مَعَ اللَّهِ، وَهِيَ الْمَحَبَّةُ الشِّرِكِيَّةُ، وَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا مَعَ اللَّهِ لَا لِلَّهِ، وَلَا مِنْ أَجْلِهِ، وَلَا فِيهِ، فَقَدِ اتَّخَذَهُ نِدًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهَذِهِ مَحَبَّةُ الْمُشْرِكِينَ. وَبَقِيَ قِسْمٌ خَامِسٌ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ: وَهِيَ الْمَحَبَّةُ الطَّبِيعِيَّةُ، وَهِيَ مَيْلُ الْإِنْسَانِ إِلَى مَا يُلَائِمُ طَبْعَهُ، كَمَحَبَّةِ الْعَطْشَانِ لِلْمَاءِ، وَالْجَائِعِ لِلطَّعَامِ، وَمَحَبَّةِ النَّوْمِ وَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ، فَتِلْكَ لَا تُذَمُّ إِلَّا إِذَا أَلْهَتْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَشَغَلَتْ عَنْ مَحَبَّتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ: 9]. وَقَالَ تَعَالَى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [سُورَةُ النُّورِ: 37].
ثُمَّالْخُلَّةُوَهِيَ تَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْمَحَبَّةِ وَنِهَايَتَهَا، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِي الْقَلْبِ سَعَةٌ لِغَيْرِ مَحْبُوبِهِ، وَهِيَ مَنْصِبٌ لَا يَقْبَلُ الْمُشَارَكَةَ بِوَجْهٍ مَا، وَهَذَا الْمَنْصِبُ خَاصٌّ لِلْخَلِيلَيْنِ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا-: إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ، كَمَا قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا». وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ». وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى كُلِّ خَلِيلٍ مِنْ خُلَّتِهِ» وَلَمَّا سَأَلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْوَلَدَ فَأُعْطِيَهُ، وَتَعَلَّقَ حُبُّهُ بِقَلْبِهِ، فَأَخَذَ مِنْهُ شُعْبَةً، غَارَ الْحَبِيبُ عَلَى خَلِيلِهِ أَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعٌ لِغَيْرِهِ، فَأَمَرَهُ بِذَبْحِهِ، وَكَانَ الْأَمْرُ فِي الْمَنَامِ لِيَكُونَ تَنْفِيذُ الْمَأْمُورِ بِهِ أَعْظَمَ ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا، وَلَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ ذَبْحَ الْوَلَدِ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ ذَبْحُهُ مِنْ قَلْبِهِ؛ لِيَخْلُصَ الْقَلْبُ لِلرَّبِّ، فَلَمَّا بَادَرَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى الِامْتِثَالِ، وَقَدَّمَ مَحَبَّةَ اللَّهِ عَلَى مَحَبَّةِ وَلَدِهِ، حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَرُفِعَ الذَّبْحُ، وَفُدِيَ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، فَإِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى مَا أَمَرَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ أَبْطَلَهُ رَأْسًا، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُبْقِيَ بَعْضَهُ أَوْ بَدَلَهُ، كَمَا أَبْقَى شَرِيعَةَ الْفِدَاءِ، وَكَمَا أَبْقَى اسْتِحْبَابَ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُنَاجَاةِ، وَكَمَا أَبْقَى الْخَمْسَ الصَّلَوَاتِ بَعْدَ رَفْعِ الْخَمْسِينَ وَأَبْقَى ثَوَابَهَا، وَقَالَ: وَلَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، هِيَ خَمْسٌ فِي الْفِعْلِ، وَهِيَ خَمْسُونَ فِي الْأَجْرِ». وَأَمَّا مَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الْغَالِطِينَ - أَنَّ الْمَحَبَّةَ أَكْمَلُ مِنَ الْخُلَّةِ، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ، وَمُحَمَّدًا حَبِيبُ اللَّهِ - فَمِنْ جَهْلِهِ، فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ عَامَّةٌ، وَالْخُلَّةَ خَاصَّةٌ،وَالْخُلَّةَ نِهَايَةُ الْمَحَبَّةِ،وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ اللَّهَ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَنَفَى أَنْ يَكُونَ لَهُ خَلِيلٌ غَيْرُ رَبِّهِ مَعَ إِخْبَارِهِ بِحُبِّهِ لِعَائِشَةَ وَلِأَبِيهَا وَلِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 222]. وَ{يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 146]. وَ {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 148]. وَ {يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 42]. وَالشَّابُّ التَّائِبُ حَبِيبُ اللَّهِ، وَخُلَّتُهُ خَاصَّةٌ بِالْخَلِيلَيْنِ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ قِلَّةِ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّالْعَبْدَ لَا يَتْرُكُ مَا يُحِبُّهُ وَيَهْوَاهُ، وَلَكِنْ يَتْرُكُ أَضْعَفَهُمَا مَحَبَّةً لِأَقْوَاهُمَا مَحَبَّةً، كَمَا أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَكْرَهُهُ؛ لِحُصُولِ مَا مَحَبَّتُهُ أَقْوَى عِنْدَهُ مِنْ كَرَاهَةِ مَا يَفْعَلُهُ، أَوْ لِخَلَاصِهِ مِنْ مَكْرُوهٍ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ خَاصِّيَّةَ الْعَقْلِ إِيثَارُ أَعْلَى الْمَحْبُوبَيْنِ عَلَى أَدْنَاهُمَا، وَأَيْسَرِ الْمَكْرُوهَيْنِ عَلَى أَقْوَاهُمَا، وَتَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا مِنْ كَمَالِ قُوَّةِ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ. وَلَا يَتِمُّ لَهُ هَذَا إِلَّا بِأَمْرَيْنِ: قُوَّةِ الْإِدْرَاكِ، وَشَجَاعَةِ الْقَلْبِ، فَإِنَّ التَّخَلُّفَ عَنْ ذَلِكَ وَالْعَمَلَ بِخِلَافِهِ يَكُونُ إِمَّا لِضَعْفِ الْإِدْرَاكِ بِحَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مَرَاتِبَ الْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، إِمَّا لِضَعْفٍ فِي النَّفْسِ، وَعَجْزٍ فِي الْقَلْبِ، بِحَيْثُ لَا يُطَاوِعُهُ عَلَى إِيثَارِ الْأَصْلَحِ؛ لِرَفْعِ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ الْأَصْلَحُ، فَإِذَا صَحَّ إِدْرَاكُهُ، وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ، وَتَشَجَّعَ قَلْبُهُ عَلَى إِيثَارِ الْمَحْبُوبِ الْأَعْلَى وَالْمَكْرُوهِ الْأَدْنَى فَقَدْ وُفِّقَ لِأَسْبَابِ السَّعَادَةِ. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ سُلْطَانُ شَهْوَتِهِ أَقْوَى مِنْ سُلْطَانِ عَقْلِهِ وَإِيمَانِهِ، فَيَقْهَرُ الْغَالِبُ الضَّعِيفَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ سُلْطَانُ إِيمَانِهِ وَعَقْلِهِ أَقْوَى مِنْ سُلْطَانِ شَهْوَتِهِ، وَإِذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْمَرْضَى يَحْمِيهِ الطَّبِيبُ عَمَّا يَضُرُّهُ، فَتَأْبَى عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَشَهْوَتُهُ إِلَّا تَنَاوُلَهُ، وَيُقَدِّمُ شَهْوَتَهُ عَلَى عَقْلِهِ، وَتُسَمِّيهِ الْأَطِبَّاءُ: عَدِيمَ الْمُرُوءَةِ، فَهَكَذَا أَكْثَرُ مَرْضَى الْقُلُوبِ يُؤْثِرُونَ مَا يَزِيدُ مَرَضَهُمْ، لِقُوَّةِ شَهْوَتِهِمْ لَهُ. فَأَصْلُ الشَّرِّ مِنْ ضَعْفِ الْإِدْرَاكِ وَضَعْفِ النَّفْسِ وَدَنَاءَتِهَا، وَأَصْلُ الْخَيْرِ مِنْ كَمَالِ الْإِدْرَاكِ وَقُوَّةِ النَّفْسِ وَشَرَفِهَا وَشَجَاعَتِهَا. فَالْحُبُّ وَالْإِرَادَةُ أَصْلُ كُلِّ فِعْلٍ وَمَبْدَؤُهُ، وَالْبُغْضُ وَالْكَرَاهَةُ أَصْلُ كُلِّ تَرْكٍ وَمَبْدَؤُهُ، وَهَاتَانِ الْقُوَّتَانِ فِي الْقَلْبِ، أَصْلُ سَعَادَةِ الْعَبْدِ وَشَقَاوَتِهِ. وَوُجُودُ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوُجُودِ سَبَبِهِ مِنَ الْحُبِّ وَالْإِرَادَةِ. وَأَمَّا عَدَمُ الْفِعْلِ: فَتَارَةً يَكُونُ لِعَدَمِ مُقْتَضِيهِ وَسَبَبِهِ، وَتَارَةً يَكُونُ لِوُجُودِ الْبُغْضِ وَالْكَرَاهَةِ الْمَانِعَةِ مِنْهُ، وَهَذَا مُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الْكَفَّ، وَهُوَ مُتَعَلِّقُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَبِهَذَا يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ فِي مَسْأَلَةِ التَّرْكِ وَهَلْ هُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ أَوْ عَدَمِيٌّ؟ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ قِسْمَانِ: فَالتَّرْكُ الْمُضَافُ إِلَى عَدَمِ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي عَدَمِيٌّ، وَالْمُضَافُ إِلَى السَّبَبِ الْمَانِعِ مِنَ الْفِعْلِ وُجُودِيٌّ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ الِاخْتِيَارِيَّيْنِ إِنَّمَا يُؤْثِرُهُ الْحَيُّ لِمَا فِيهِ مِنْحُصُولِ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي يَلْتَذُّ بِحُصُولِهَا،أَوْ زَوَالِ الْأَلَمِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ الشِّفَاءُ بِزَوَالِهِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: شَفَى صَدْرَهُ، وَشَفَى قَلْبَهُ، وَقَالَ: هِيَ الشِّفَاءُ لِدَائِي لَوْ ظَفِرْتُ بِهَا *** وَلَيْسَ مِنْهَا شِفَاءُ الدَّاءِ مَبْذُولُ وَهَذَا مَطْلُوبٌ يُؤْثِرُهُ الْعَاقِلُ بَلِ الْحَيَوَانُ الْبَهِيمُ، وَلَكِنْ يَغْلَطُ فِيهِ أَكْثَرُ النَّاسِ غَلَطًا قَبِيحًا، فَيَقْصِدُ حُصُولَ اللَّذَّةِ بِمَا يُعَقِّبُ عَلَيْهِ أَعْظَمَ الْأَلَمِ، فَيُؤْلِمُ نَفْسَهُ مِنْ حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّهُ يُحَصِّلُ لَذَّتَهَا، وَيَشْفِي قَلْبَهُ بِمَا يُعَقِّبُ عَلَيْهِ غَايَةَ الْمَرَضِ، وَهَذَا شَأْنُ مَنْ قَصَرَ نَظَرَهُ عَلَى الْعَاجِلِ وَلَمْ يُلَاحِظِ الْعَوَاقِبَ، وَخَاصَّةً الْعَقْلُ النَّاظِرُ فِي الْعَوَاقِبِ، فَأَعْقَلُ النَّاسِ مَنْ آثَرَ لَذَّتَهُ وَرَاحَتَهُ فِي الْآجِلَةِ الدَّائِمَةِ عَلَى الْعَاجِلَةِ الْمُنْقَضِيَةِ الزَّائِلَةِ، وَأَسْفَهُ الْخَلْقِ مَنْ بَاعَ نَعِيمَ الْأَبَدِ وَطَيِّبَ الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ وَاللَّذَّةَ الْعُظْمَى الَّتِي لَا تَنْغِيصَ فِيهَا وَلَا نَقْصَ بِوَجْهٍ مَا، بِلَذَّةٍ مُنْقَضِيَةٍ مَشُوبَةٍ بِالْآلَامِ وَالْمَخَاوِفِ، وَهِيَ سَرِيعَةُ الزَّوَالِ وَشِيكَةُ الِانْقِضَاءِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: "فَكَّرْتُ فِيمَا يَسْعَى فِيهِ الْعُقَلَاءُ، فَرَأَيْتُ سَعْيَهُمْ كُلِّهِمْ فِي مَطْلُوبٍ وَاحِدٍ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ طُرُقُهُمْ فِي تَحْصِيلِهِ، رَأَيْتَهُمْ جَمِيعَهُمْ إِنَّمَا يَسْعَوْنَ فِي دَفْعِ الْهَمِّ وَالْغَمِّ عَنْ نُفُوسِهِمْ، فَهَذَا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَهَذَا بِالتِّجَارَةِ وَالْكَسْبِ، وَهَذَا بِالنِّكَاحِ، وَهَذَا بِسَمَاعِ الْغِنَاءِ وَالْأَصْوَاتِ الْمُطْرِبَةِ، وَهَذَا بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، فَقُلْتُ: هَذَا الْمَطْلُوبُ مَطْلُوبُ الْعُقَلَاءِ، وَلَكِنَّ الطُّرُقَ كُلَّهَا غَيْرُ مُوَصِّلَةٍ إِلَيْهِ، بَلْ لَعَلَّ أَكْثَرَهَا إِنَّمَا يُوَصِّلُ إِلَى ضِدِّهِ، وَلَمْ أَرَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الطُّرُقِ طَرِيقًا مُوَصِّلَةً إِلَيْهِ إِلَّا الْإِقْبَالَ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، وَمُعَامَلَتَهُ وَحْدَهُ، وَإِيثَارَ مَرْضَاتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ". فَإِنَّ سَالِكَ هَذَا الطَّرِيقِ إِنْ فَاتَهُ حَظُّهُ مِنَ الدُّنْيَا فَقَدْ ظَفِرَ بِالْحَظِّ الْعَالِي الَّذِي لَا فَوْتَ مَعَهُ، وَإِنْ حَصَلَ لِلْعَبْدِ حَصَلَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَإِنْ فَاتَهُ فَاتَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَإِنْ ظَفِرَ بِحَظِّهِ مِنَ الدُّنْيَا نَالَهُ عَلَى أَهْنَأِ الْوُجُوهِ، فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْفَعُ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ، وَلَا أَوْصَلُ مِنْهَا إِلَى لَذَّتِهِ وَبَهْجَتِهِ وَسَعَادَتِهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَالْمَحْبُوبُ قِسْمَانِ: مَحْبُوبٌ لِنَفْسِهِ، وَمَحْبُوبٌ لِغَيْرِهِ، وَالْمَحْبُوبُ لِغَيْرِهِ، لَا بُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْمَحْبُوبِ لِنَفْسِهِ، دَفْعًا لِلتَّسَلْسُلِ الْمُحَالِ، وَكُلُّ مَا سِوَى الْمَحْبُوبِ الْحَقِّ فَهُوَ مَحْبُوبٌ لِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يُحَبُّ لِذَاتِهِ إِلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مِمَّا يُحَبُّ فَإِنَّمَا مَحَبَّتُهُ تَبَعٌ لِمَحَبَّةِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، كَمَحَبَّةِ مَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، فَإِنَّهَا تَبَعٌ لِمَحَبَّتِهِ سُبْحَانَهُ، وَهِيَ مِنْ لَوَازِمِ مَحَبَّتِهِ، فَإِنَّ مَحَبَّةَ الْمَحْبُوبِ تُوجِبُ مَحَبَّةَ مَا يُحِبُّهُ، وَهَذَا مَوْضِعٌ يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ، فَإِنَّهُ مَحَلُّ فُرْقَانٍ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ النَّافِعَةِ لِغَيْرِهِ، وَالَّتِي لَا تَنْفَعُ بَلْ قَدْ تَضُرُّ. فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُحَبُّ لِذَاتِهِ إِلَّا مَنْ كَانَ كَمَالُهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَإِلَهِيَّتُهُ وَرُبُوبِيَّتُهُ وَغِنَاهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَمَا سِوَاهُ فَإِنَّمَا يُبْغَضُ وَيُكْرَهُ لِمُنَافَاتِهِ مَحَابِّهُ وَمُضَادَّتِهِ لَهَا، وَبُغْضُهُ وَكَرَاهَتُهُ بِحَسَبِ قُوَّةِ هَذِهِ الْمُنَافَاةِ وَضَعْفِهَا، فَمَا كَانَ أَشَدَّ مُنَافَاةً لِمَحَابِّهِ، كَانَ أَشَدَّ كَرَاهَةً مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْأَوْصَافِ وَالْأَفْعَالِ وَالْإِرَادَاتِ وَغَيْرِهَا، فَهَذَا مِيزَانٌ عَادِلٌ تُوزَنُ بِهِ مُوَافَقَةُ الرَّبِّ وَمُخَالَفَتُهُ وَمُوَالَاتُهُ وَمُعَادَاتُهُ، فَإِذَا رَأَيْنَا شَخْصًا يُحِبُّ مَا يَكْرَهُهُ الرَّبُّ تَعَالَى وَيَكْرَهُ مَا يُحِبُّهُ، عَلِمْنَا أَنَّ فِيهِ مِنْ مُعَادَاتِهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَإِذَا رَأَيْنَا الشَّخْصَ يُحِبُّ مَا يُحِبُّهُ الرَّبُّ وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُهُ، وَكُلَّمَا كَانَ الشَّيْءُ أَحَبَّ إِلَى الرَّبِّ كَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِ وَآثَرَهُ عِنْدَهُ، وَكُلَّمَا كَانَ أَبْغَضَ إِلَيْهِ كَانَ أَبْغَضَ إِلَيْهِ وَأَبْعَدَ مِنْهُ، عَلِمْنَا أَنَّ فِيهِ مِنْ مُوَالَاةِ الرَّبِّ بِحَسَبِ ذَلِكَ. فَتَمَسَّكْ بِهَذَا الْأَصْلِ فِي نَفْسِكَ وَفِي غَيْرِكَ، فَالْوِلَايَةُ عِبَارَةٌ عَنْ مُوَافَقَةِ الْوَلِيِّ الْحَمِيدِ فِي مَحَابِّهِ وَمَسَاخِطِهِ، وَلَيْسَتْ بِكَثْرَةِ صَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ وَلَا تَمَزُّقٍ وَلَا رِيَاضَةٍ. وَالْمَحْبُوبُ لِغَيْرِهِ قِسْمَانِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا: مَا يَلْتَذُّ الْمُحِبُّ بِإِدْرَاكِهِ وَحُصُولِهِ. وَالثَّانِي: مَا يَتَأَلَّمُ بِهِ وَلَكِنْ يَحْتَمِلُهُ لِإِفْضَائِهِ إِلَى الْمَحْبُوبِ، كَشُرْبِ الدَّوَاءِ الْكَرِيهِ، قَالَ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 216]. فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْقِتَالَ مَكْرُوهٌ لَهُمْ مَعَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُمْ لِإِفْضَائِهِ إِلَى أَعْظَمِ مَحْبُوبٍ وَأَنْفَعِهِ، وَالنُّفُوسُ تَحْتَ الرَّاحَةِ وَالدَّعَةِ وَالرَّفَاهِيَةِ، ذَلِكَ شَرٌّ لَهَا لِإِفْضَائِهِ إِلَى فَوَاتِ الْمَحْبُوبِ، فَالْعَاقِلُ لَا يَنْظُرُ إِلَى لَذَّةِ الْمَحْبُوبِ الْعَاجِلِ فَيُؤْثِرُهَا، وَأَلَمِ الْمَكْرُوهِ الْعَاجِلِ فَيَرْغَبُ عَنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ شَرًّا لَهُ، بَلْ قَدْ يَجْلِبُ عَلَيْهِ غَايَةَ الْأَلَمِ وَيُفَوِّتُهُ أَعْظَمَ اللَّذَّةِ، بَلْ عُقَلَاءُ الدُّنْيَا يَتَحَمَّلُونَ الْمَشَاقَّ الْمَكْرُوهَةَ لِمَا يُعْقِبُهُمْ مِنَ اللَّذَّةِ بَعْدَهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُنْقَطِعَةً. فَالْأُمُورُ أَرْبَعَةٌ: مَكْرُوهٌ يُوَصِّلُ إِلَى مَكْرُوهٍ، وَمَكْرُوهٌ يُوَصِّلُ إِلَى مَحْبُوبٍ، وَمَحْبُوبٌ يُوَصِّلُ إِلَى مَحْبُوبٍ، وَمَحْبُوبٌ يُوَصِّلُ إِلَى مَكْرُوهٍ، فَالْمَحْبُوبُ الْمُوَصِّلُ إِلَى الْمَحْبُوبِ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ دَاعِيَ الْفِعْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَالْمَكْرُوهُ الْمُوَصِّلُ إِلَى مَكْرُوهٍ، قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ دَاعِي التَّرْكِ مِنْ وَجْهَيْنِ. بَقِيَ الْقِسْمَانِ الْآخَرَانِ يَتَجَاذَبُهُمَا الدَّاعِيَانِ -وَهُمَا مُعْتَرَكُ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ- فَالنَّفْسُ تُؤْثِرُ أَقْرَبَهُمَا جِوَارًا مِنْهَا، وَهُوَ الْعَاجِلُ، وَالْعَقْلُ وَالْإِيمَانُ يُؤْثِرُ أَنْفَعَهُمَا وَأَبْقَاهُمَا، وَالْقَلْبُ بَيْنَ الدَّاعِيَيْنِ، وَهُوَ إِلَى هَذَا مَرَّةً، وَإِلَى هَذَا مَرَّةً، وَهَاهُنَا مَحَلُّ الِابْتِلَاءِ شَرْعًا وَقَدَرًا، فَدَاعِي الْعَقْلِ وَالْإِيمَانِ يُنَادِي كُلَّ وَقْتٍ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، عِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى، وَفِي الْمَمَاتِ يَحْمَدُ الْعَبْدُ التُّقَى، فَإِنِ اشْتَدَّ ظَلَامُ لَيْلِ الْمَحَبَّةِ، وَتَحَكَّمَ سُلْطَانُ الشَّهْوَةِ وَالْإِرَادَةِ، يَقُولُ: يَا نَفْسُ اصْبِرِي فَمَا هِيَ إِلَّا سَاعَةٌ ثُمَّ تَنْقَضِي وَيَذْهَبُ هَذَا كُلُّهُ وَيَزُولُ.
|